قانون شيرمان لمنع الاحتكار للعام 1890 في الولايات المتحدة


قانون شيرمان لمنع الاحتكار للعام 1890

نظام اقتصادي أميركي أكثر ديناميكية وانفتاحاً
بقلم رودولف جاي. أر بريتز
مهدت الولايات المتحدة عام 1890 الطريق لقانون المنافسة وعملت بقوة على تقوية مستقبل الأسواق الحرة في النظام الأميركي من خلال تبني تشريع فدرالي جديد: قانون شيرمان لمنع الاحتكار. للمرة الأولى في التاريخ، تتولى حكومة قومية زمام المسؤولية في التحقيق، وإذا لزم الأمر، ملاحقة الاحتكارات والتكتلات التي تحدد الأسعار. مع مرور الوقت، أصبحت نتائج هذا العمل، الذي استنكره قادة الصناعة في وقت المصادقة عليه، واضحة. من خلال الحد من قدرة الشركة في السيطرة على منافسيها في السوق، جعل القانون الجديد النظام الاقتصادي الأميركي أكثر ديناميكية وأكثر انفتاحا على المنافسين الجدد والتكنولوجيات الجديدة. وشهد القرن التالي توسعاً اقتصادياً كبيراً، وارتفاعاً في المستويات المعيشية في الولايات المتحدة.
أقر الكونغرس الأميركي التشريع في وقت اتسم بتغيير صناعي مضطرب، في وقت كانت فيه التكنولوجيات الجديدة للإنتاج الضخم لسلع المصانع بجميع أنواعها تؤدي إلى ولادة "الشركات الكبرى"، في وقت كانت فيه شبكات التوزيع الموسعة التي تبعت فترة توحيد مواصفات السكك الحديدية بعد الحرب الأهلية تحيك مزائج مختلفة الألوان والأشكال من الأسواق الإقليمية لتجعلها اقتصاداً وطنياً. ولأن هذه التطورات الثورية بشرت بكفاءة اقتصادية أكبر بكثير مما كان معروفا في الماضي، في الوقت نفسه، كانت الاحتكارات أو الكارتلات تسيطر على نحو متزايد على صناعات بأكملها. تجدر الإشارة إلى أن الكارتل هو مجموعة من الشركات المتنافسة التي اتفقت على تحديد الأسعار أو اتخاذ تدابير أخرى للحد من المنافسة فيما بينها. ومن خلال سن قانون منع الاحتكار للحد من هذا السلوك، عمل الكونغرس على إمالة التجارة الحرة في النظام الأميركي نحو المنافسة بدلا من التلاعب في السوق وراء الكواليس من قبل المصالح الخاصة القوية. كيف توصل الكونغرس إلى اختيار سياسة المنافسة الحرة في عام 1890؟ هل ما زال التشريع له صلة بعصرنا الذي يتحول إلى اقتصاد سيتسم بالعولمة والتكنولوجيا الرقمية؟ إن متابعة هذه التحقيقات يأخذنا أولاً إلى المناقشات في الكونغرس وقرارات المحكمة المبكرة التي تفسر القانون، ومن ثم إلى قضية مايكروسوفت مؤخرا بعد أكثر من قرن من الزمن. على الرغم من أن الكثير من الأحداث حصلت بين هذين الفصلين من التاريخ الاقتصادي، فإن كليهما وقع في فترات من التغير الصناعي العاصف في الولايات المتحدة، وبالتالي، فإنهما يشكلان حلقات مفيدة بشكل خاص لفرض تطبيق قوانين منع الاحتكار.
مشكلة خط السكة الحديدية 

فيما عدا استثناءات قليلة، كانت الحياة اليومية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر تفتقر إلى الهاتف، والضوء الكهربائي، والسيارات. بل إنها كانت تعتمد على عربات الركوب والنقل التي تجرها الخيول، ومصباح الكيروسين، وكذلك شبكة خطوط السكة الحديد الجديدة المتوسعة بسرعة. في الواقع، كان هناك احتفال كبير يوم تم استكمال خط سكة الحديد الأول العابر للقارة في عام 1869، بمرور الخط فوق المسمار الذي سمي "غولدن سبايك" أي المسمار الذهبي. وأثارت فكرة إنشاء السكة الحديد الواحدة التي تمتد عبر الولايات المتحدة القارية مخيلة المواطنين المعتادين على السفر في مركبات عمومية تجرها الجياد والمعروفة بخدمة "بوني إكسبرس".
تبعت ذلك خطوط السكة الحديد القومية، وسوية مع الطرق الإقليمية وخطوط التغذية الكهربائية، فإنها ربطت في وقت قريب أقاصي المناطق التجارية بين الولايات. ولكن تَّم بناء العديد من خطوط السكة الحديد بسرعة قصوى مما أدى إلى اندلاع منافسة شرسة فيما بينها وسرعان ما تبعها الإفلاس. وعلى الأخص، عندما تعثرت شركة خطوط السكة الحديد الباسفيكية الشمالية الكبرى في دفع الديون المستحقة لبنك الاستثمار التابع لها، فأغلق البنك أبوابه، مما عجل في إثارة الذعر المالي عام 1873. أغلقت بورصة نيويورك لمدة 10 أيام في خريف ذلك العام بسبب الذعر الذي هدد بانهيار سوق الأوراق المالية. ومع اتساع نطاق الأزمة، تخلفت حوالي 90 شركة من شركات السكة الحديد عن دفع السندات، مما أدى إلى إغلاق المزيد من المصارف ودفع الاقتصاد إلى الأزمة المالية التي استمرت حتى العام 1870.
ورغم ذلك، استمر بناء السكة الحديد. واستمرت الصعوبات. وحتى التسعينات من القرن التاسع عشر، وصل المعدل السنوي لشركات السكك الحديدية التي ما زالت تفشل إلى 50 شركة. اعترف الجميع "بمشكلة السكة الحديدية"، لكن لم يكن هناك توافق في الآراء حول الحل المقبول.
اقترب الكونغرس أولاً من المشكلة بتمرير قانون التجارة بين الولايات للعام 1887 لحماية الشركات الصغيرة والسكك الحديدية نفسها من الأسعار التفضيلية التي تمنح للشحن التجاري عليها والتي تعتبر السكك الحديدية أنها مضطرة لمنحها إلى الشركات الاحتكارية الصناعية والى العملاء الأقوياء الآخرين. كان القانون يمنع السكة الحديد من الانخراط في وضع أسعار تمييزية، من فرض أسعار أقل للعملاء الأقوياء لمجرد أنهم طالبوا بها. ومع ذلك، استمرت الضغوط الشرسة. وكان حل السكة الحديد لمطالب عملائها الانضمام معا في كارتلات تحديد الأسعار بأنفسهم. وبحلول مطلع القرن العشرين، انتشر الهروب من المنافسة إلى الجمع وتخطى كثيراً خطوط السكة الحديد. كانت الكارتلات العملاقة وكذلك عمليات دمج الشركات بين المتنافسين تساهم في إعادة تشكيل وتعزيز الصناعات عبر الاقتصاد، من تكرير النفط وإنتاج الصلب إلى صناعة عيدان الكبريت الخشبية وورق الكريب.
صعود شركة ستاندرد اويل 

يتعلق المثال الأكثر شهرة بمحاسب من شمالي ولاية أوهايو يدعى جون روكفلر. بحلول العام 1859، تّم اكتشاف النفط في أونتاريو، كندا، وفي غربي ولاية بنسلفانيا. أرسلت معظم كميات النفط الخام المستخرج من الحقلين إلى مصافي تكرير في شمالي ولاية أوهايو لتكريره وتحويله إلى أشكال مفيدة، مثل الكيروسين. وفي أقل من 15 عاما، أصبح روكفلر رجل أعمال ناجح جدا لأنه سيطر على مصافي النفط في ولاية أوهايو، ومن خلالها، على الصناعة برمتها. استخدم هذه السيطرة كقوة ضغط للتأثير على السكة الحديد، التي ضعفت ماليا بسبب انتشارها والمنافسة الشديدة. سمحت حالتها لروكفلر بقدرة تأثير للحصول ليس فقط على أسعار أقل لنقل المنتجات النفطية ولكن أيضا على جزء من كل دولار يدفعه منافسوه إلى السكة الحديد. انتزع هذه المبالغ من خلال الاتصال بكل شركة للسكة الحديد وتهديدها بأنها ستخسر التعامل معه، الذي كان كبيراً جداً، وبالتالي حاسماً في صناعة كان هامش ربحها ضئيلاً جداً مما جعلها تعتمد على حجم ما تنقله.
ونتيجة لذلك، سُحقت شركات النفط المستقلة، والعديد منها تّم بيعه إلى شركة ستاندر أويل. في عام 1892، فاز النائب العام لولاية أوهايو بأمر من المحكمة لحل شركة ستاندرد أويل، ولكن روكفلر انتقل ببساطة إلى ولاية نيو جيرسي، وحولها إلى أول شركة "تراست" أي شركة احتكار تجاري - وهي شركة تسيطر على منافسين كانوا مستقلين سابقاً من خلال امتلاك شهادات أسهمهم. كانت شركات التراست القديمة مختلفة عن الشركات القابضة اليوم، التي تملك محافظ أسهم متنوعة في كافة المجالات الصناعية، وبالتالي، لا تثير مخاوف بشأن القوة الاحتكارية في أسواق معينة.
على الرغم من أن عددا قليلا من الشركات تبنت فعلا شكل "التراست"، أصبح المصطلح بسرعة شعاراً في النقاش العام حول دور الحكومة في وقت يشهد هذا النوع من التركيز الصناعي. رأى البعض تزايد التركيز الصناعي كأمر طبيعي ومفيد. وقال بارون الصلب أندرو كارنيغي إن "هذا الاتجاه الساحق القوة الذي لا يقاوم المتجه نحو تجميع رؤوس الأموال وزيادة الحجم... لا يمكن كبح جماحه". حتى الصحفي التقدمي التفكير لينكولن ستيفنز، علق بأن: "شركات التراست طبيعية، وهي نمو لا مفر منه للخروج من ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية.... ولا يمكنك وقفها بالقوة، عن طريق القوانين".
ورآه آخرون بشكل مختلف. وأعربوا عن اعتقادهم بأن الإصلاح القانوني فقط يمكنه أن يضمن قدراً من المنافسة الحرة والتوزيع العادل للثروة والسلطة بين الشركات الكبيرة والصغيرة. مع تصاعد الضغط لتنفيذ الاصلاحلات، اتخذت بعض الولايات اجراءات قانونية ضد شركات التراست، لأنها أصبحت معروفة عالميا. لكن الجهود التي بذلها التقدميون لتفكيك شركات التراست فشلت لأنهم، مثل ستاندرد أويل في ذلك الوقت، كان يمكنهم الانتقال إلى ولايات أقل ميلا نحو العقلية الإصلاحية، وتكون لديها قوانين تجارية أكثر تساهلا.
عندما أصبح من الواضح أن الولايات لم تتمكن أو لن تساهم في الحد من نمو جميع أنواع شركات التراست، عقد الكونغرس جلسات استماع حول كيفية معالجة هذه المسألة. في عام 1888، قدم السناتور جون شيرمان من ولاية أوهايو مشروع قانون لمنع الاحتكار، وأعلن:
يتم تأجيج العقل الشعبي بالمشاكل التي قد تعكر صفو النظام الاجتماعي، ومن بينها جميعها ليس هناك ما هو أكثر تهديدا من... تركيز رؤوس الأموال في مجموعات واسعة التنوع. ... يكون بإمكان الكونغرس وحده التعامل معها، وإذا كنا غير راغبين أو غير قادرين سيكون هناك قريبا شركة تراست لكل منتج ومصدر رئيسي لتحديد ثمن كل ضرورة من ضروريات الحياة.
ومع ذلك، كان هناك البعض في الكونغرس الذين اختلفوا مع السناتور شيرمان. وقفوا إلى جانب كارنيغي وستيفنز وكذلك روكفلر، الذي سيشهد في وقت لاحق أمام اللجنة الصناعية للولايات المتحدة بأنه: "لقد فات الأوان للمجادلة حول مزايا المجموعات الصناعية، وهي ضرورة."
وعلى وجه الخصوص، اختلف الرجلان من ولاية أوهايو، وهما شيرمان وروكفلر، بشدة حول احتمال وحكمة تحويل مد وجزر زيادة التركيز الصناعي. من الناحية النظرية، كان الاثنان يتحدثان لصالح "المنافسة الحرة". لكن المنافسة الحرة حملت معاني مختلفة بالنسبة لهما. بالنسبة للسناتور شيرمان، فإنها عنت المنافسة الحرة من سيطرة القوة الاقتصادية الخاصة. عنت أن الأسواق الحرة تتطلب وضع حدود للاحتكارات والكارتلات، وقيود اقتصادية مماثلة. كان روكفلر يؤمن بالمنافسة المتحررة من التنظيم الحكومي، ودعا إلى حرية مطلقة في التعاقد.
وهكذا، في عام 1890، أدت المخاوف الاجتماعية بشأن التحول الصناعي الهائل والمخاوف الاقتصادية بشأن الاحتكارات والتكتلات التي هددت الأسواق الحرة، والمخاوف السياسية بشأن "حرية المواطن" الأساسية في دولة قد تصبح فيها شركات التراست قوية جدا إلى دفع الكونغرس لتمرير قانون شيرمان لمنع الاحتكار.
في النظام الأميركي، تخدم عادة التشريعات كبداية للتغيير الاجتماعي. بعد ذلك، يتم تطبيق القوانين والسياسات التي تفسر من قبل المحاكم، حيث الانقسام الحاد بين اثنين من أبناء ولاية أوهايو، وهما شيرمان وروكفلر، استمر في لعب دوره لعدة عقود.
المحكمة العليا تؤيد القانون الجديد 
سرعان ما وصلت قضيتان بارزتان من قضايا منع الاحتكار تتعلقان بالسكة الحديد إلى المحكمة العليا، والأولى منها عام 1896. ففي قضية الولايات المتحدة ضد جمعية الشحن عبر ميزوري، ادعى النائب العام على كارتل للسكك الحديدية الذي احتج أعضاؤه الثماني عشرة بأنهم كانوا يقومون بمجرد تحديد أسعار معقولة لتجنب المنافسة المدمرة. على الرغم من أن حجة السكة الحديد أقنعت المحاكم الدنيا، لكن المحكمة العليا المنقسمة على نفسها وجدت أن الكارتل غير شرعي وأعلنت أن العملية التنافسية لوحدها هي التي تحدد الأسعار المعقولة. لاحظت أيضا غالبية أعضاء المحكمة أن هذا "الجمع بين رأس المال" يهدد بإفلاس العملاء الصغار والرجال الجديرين الذين صرفوا حياتهم فيها." وبعد سنوات قليلة، أعادت فصائل المحكمة تأكيد صلاحية قانون شيرمان لمنع الاحتكار بشكل أكثر وضوحا، واتحدت فيما بينها لتعلن أن جميع كارتلات تحديد الأسعار غير قانونية:
"... لا يمكننا أن نشك بأن (الكارتلات)، مهما كانت الأسعار التي تحددها معقولة، ومهما كانت المنافسة التي عليها مواجهتها عظيمة، ومهما كانت الضرورة عظيمة لكبح جماحها من خلال الاتفاق المشترك عن ارتكاب الانتحار المالي بسبب المنافسة غير الحكيمة، (محظورة) لأنها... تحرم عامة الناس من المزايا التي تتدفق من المنافسة الحرة.
عندما أصبحت كارتلات تحديد الاسعار غير قانونية بشكل علني وواضح، تحولت خطوط السكة الحديد إلى عمليات الاندماج كسبيل للقضاء على المنافسة فيما بينها. وهكذا، فإن القضية البارزة الثانية لاختبار التشريع أقامها المدعي العام ووزير العدل الأميركي لتفكيك شركات التراست الشمالية للأوراق المالية، نتيجة لعملية الدمج التي صممها الممول جي بي مورغان. أصبحت مجموعته تسيطر على شركة السكة الحديد الباسيفيكية الشمالية المتعثرة، التي تنافست على طول 9000 ميل من مسارات السكك المتوازية مع يونيون باسيفيك، والتي كان روكفلر من بين أصحابها. لإنهاء المنافسة الحادة بين السكتين الحديديتين، أقنع مورغان المجموعتين المالكتين بالاندماج من خلال تبادل أسهمهما في السكة الحديد بشهادات ائتمان. أقامت الحكومة الفدرالية دعوى لحل التراست. 

في عام 1904، وافقت أغلبية ضئيلة في المحكمة العليا على العمل الحكومي لتفكيك شركات التراست في السكة الحديد. رفض أربعة من القضاة التسعة، الموافقة على القرار، وأصروا على أن عملية الدمج، مثل أي عقد تجاري، هي مجرد بيع الممتلكات. بالنسبة لهم، كانت المنافسة الحرة تعني الحق في بيع أو تبادل الشركة من غير تدخل حكومي، بغض النظر عن تأثير ذلك على السوق. مع ذلك أصرت غالبية المحكمة على أن المنافسة الحرة تدعو الى الاهتمام بتأثير ذلك على السوق. والأمر الأساسي أنها قررت أن قانون منع الاحتكار يحظر هذا النوع من الاندماج لأن التراست الناتج عن ذلك يزيل بالضرورة المنافسة بين السكك الحديدية ويخلق الاحتكار. وأعلنت المحكمة: 

مجرد وجود مثل هذا الجمع والقوة التي اكتسبتها الشركة القابضة بوصفها وصية عليها، يشكل تهديداً وتقييداً لحرية التجارة التي كان الكونغرس ينوي إقرارها وحمايتها، والتي يستحق عامة الناس أن تكون محمية. إذا لم يتم تدمير تركيبة من هذا القبيل، فإن كل المزايا التي من شأنها أن تأتي بشكل طبيعي إلى عامة الناس في إطار عملية القوانين العامة للمنافسة... سوف تضيع. 

حتى وعندما لعب قانون شيرمان دوراً في صناعة السكة الحديد، استمرت شركة ستاندرد أويل تراست التي يملكها روكفلر في شن هجوم لا هوادة فيه على صناعة النفط. انطوت رؤيته للشبكة الموحدة والكفوءة لإنتاج وتوزيع النفط على برنامج منهجي من الترهيب الذي لم يترك لمنافسيه سوى خيار البيع مقابل مبلغ ضئيل جداً. 

ولكن في عام 1902، قام الرئيس تيدي روزفلت بعمل جعله يشتهر بأنه طارد "الاحتكار": فوفق تعليماته، أقام المدعي العام الأميركي دعوى قضائية لتفكيك ستاندرد أويل، التي أصبح سلوكها الشرس يرمز إلى مشكلة ثقة كاملة. ومعروف أن القضايا تستغرق وقتا طويلا في المحاكم، ولكن في عام 1911، قررت المحكمة العليا أخيرا أن ستاندرد أويل قد احتكرت بصورة غير قانونية صناعة النفط. وإذا وضعنا ذلك بكلمات بسيطة فإن نجاحها لم يتحقق بطريقة منصفة. كانت النتيجة صدور مرسوم بحل ستاندرد أويل إلى 33 شركة مستقلة عُرفت باسم "شركات ستاندرد الصغيرة". 

لاقى قانون منع الاحتكار نجاحا باهرا، أو هكذا بدا الأمر. أوقفت كارتلات تحديد الأسعار في مكانها واختفت شركة تراست للأوراق المالية الشمالية وشركة ستاندرد أويل الشهيرتان. أعلنت واشنطن بوست يوم 18 أيار/مايو 1911، أن قرار المحكمة العليا "يحل شركة ستاندرد أويل التي كانت في يوم ما شركة مستقلة، وجعلها شركة مجرمة".... سوف يجد الرجال الشرفاء الأمن من التحذيؤات ولوائح الاتهام، في حين أن الرجال غير الشرفاء سوف يرون فيه اليقين من العقاب... فقد أعطى البلاد ضمانات العدالة والتقدم في صناعتها ". 

ولكن إذا استعدنا الأحداث الماضية، نتبين أن النجاح لم يكن واضحاً. أولا، سمح تفكيك شركة ستاندرد أويل للمساهمين فيها بالاحتفاظ بملكية والسيطرة على الشركات الثلاثة والثلاثين الصغيرة. وهكذا لم تكن شركات مستقلة سوى بالاسم. علاوة على ذلك، أظهرت الإثباتات في جلسات الاستماع التي عقدت أمام الكونغرس بعد عدة سنوات أن أرباحها قد ازدادت فعلاً، مما أوحى بأن تفكيكها لم يؤد حتماً إلى تخفيف قوتها الاقتصادية، مهما كان شكل هيكليتها على الورق. لكن كان هنالك آخرون ممن أشاروا ليس إلى قساوة روكفلر، بل إلى نجاحه في خلق شبكة توزيع كفوءة، وإلى الفوائد التي تعود على المستهلكين من الأسعار المنخفضة للمنتجات النفطية في تلك السنوات. ولكن في النهاية، كانت مسألة منافسة على أساس الوقائع الموضوعية، وليس نجاحاً تنافسياً بأي وسيلة. في الواقع، كتب مؤخراً الفائز بجائزة نوبل جيم دوغلاس نورث أن نجاح اقتصادات السوق الحرة يعتمد على الاعتقاد بأن المشاركين سوف يحصلون على فرصة منصفة لتحقيق النجاح. 

قانون منع الاحتكار، والعصر الحديث 

يشير نقاد لقانون منع الاحتكار أتوا في تاريخ أحدث إلى عدة موجات دمج وصل عددها إلى خمسة، وبدأت الموجة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، نتجت شركة جنرال موتورز، والشركة التي لا زالت عن الوجود الآن، أي تي أند تي وشركة يو إس ستيل عن عمليات دمج عززت بنجاح صناعات السيارات، والاتصالات، والصناعات الفولاذية على مدى الجزء الأكبر من القرن العشرين. حسب وجهة نظر النقاد، لم يؤدي قانون منع الاحتكار إلى عكس الاتجاه نحو التركيز الصناعي، رغم أن المحاكم أكدت ذلك، ومعه إلى التعزيز المتزايد للسلطات الاقتصادية والسياسية لهذه الشركات الذي دفع بالأساس الكونغرس إلى العمل عام 1890. مع ذلك، ومنذ السبعينات من القرن العشرين، ورغم السلطة والمكانة الهائلة للشركات المساهمة في الحياة الأميركية، وافقت وزارة العدل ولجنة التجارة الفدرالية في كل من الإدارتين الجمهورية والديمقراطية، على تحمل مسؤولياتها القانونية ومراجعة كافة عمليات الدمج الكبيرة وأصرتا في أحيان كثيرة على إدخال تغييرات لتخفيف تأثيراتها الضارة بالمنافسة. وبالفعل، تم كسر احتكار شركة أي تي أند تي لخدمات الهاتف خلال الفترة الأولى من عهد رونالد ريغان. 

ومع ذلك، من الصعب بنوع خاص تجاهل الواقع بأنه حتى بعد انقضاء قرن على عمليات منع الاحتكار، فقد عززت عمليات الدمج القانونية صناعة النفط وحولت هذه الصناعة إلى قطاع يسيطر عليه حالياً عدد قليل من الشركات الكبيرة المتعددة الجنسيات. وبالفعل، يستمر قبول الحجة بأن التركيز أمر جيد. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد العديدون بأن الزمن قد تغير: تخفض المنافسة العالمية حدة التوتر بين فوائد المؤسسات الواسعة النطاق والأضرار التي يلحقها التركيز الصناعي. ويصر آخرون على أن التوتر لم يقلّ بل بدلا من ذلك تحولت من الساحة القومية إلى الساحة الدولية، كما تؤكد ذلك المنازعات التي حكمت فيها منظمة التجارة العالمية وجماعات مماثلة.
ومع ذلك، وبفضل السناتور شيرمان، بقي الالتزام بمنع تحديد الأسعار حازماً: في عام 1999، على سبيل المثال، أنهت الحكومة الفدرالية قضيتها ضد كارتل دولي في تجارة الفيتامينات عندما وافق أعضاء الكارتل على دفع غرامات قاربت مليار دولار وعلى سجن مدراء شركات الكارتل المتورطين. وكمسألة عامة، يوجد إجماع دولي في الآراء حول الشرور الاقتصادية للكارتلات التي تحدد الأسعار لأنها تعتبر أنها تضع قيوداً غير مبررة على المنافسة. قام أكثر من 100 بلد بوضع قوانين للمنافسة مصممة وفق نموذج قانون شيرمان لمنع الاحتكار، ابتداء من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه إلى اليابان وزامبيا. 

في الولايات المتحدة، أكد وعزز قانون منع الاحتكار التزاماً دائماً بفتح الأسواق أمام التكنولوجيات الجديدة والمجموعات الجديدة. لم يعد رجال الأعمال الأثرياء مثل روكفلر وكارنيغي وفاندربيلت ودوبون، يسيطرون على الشركات التجارية ويتحكمون بالفرص الاقتصادية. ومع تقدم سنوات القرن العشرين انطلق جماح الطاقات الابتكارية التي تتأهب للبروز في جوهر الاقتصاد الأميركي من أجل إيجاد مراكز جديدة للابتكار ولنشاط رواد الأعمال، سواء كان ذلك في هوليوود، في جادة ماديسون، أو عبر الإنترنت انطلاقاً من سيليكون فالي في ولاية كاليفورنيا إلى نظرائها في ضواحي أوستن وبوسطن.

قضية مايكروسوفت 

يستمر الجدل حول التركيز مقابل المنافسة حتى وعندما يتخذ أشكالاً جديدة. يجب ألا نندهش بأن زمننا المتميز بالتحول التكنولوجي والاقتصادي الدراماتيكي أعطى المجال لبروز قضية ثانية كبرى تتعلق بالاحتكار. منذ عام 1990، تخضع شركة مايكروسوفت، الشركة المنتجة لبرامج الكومبيوتر، للتحقيق والمقاضاة من جانب الحكومة الفيدرالية الأميركية و20 ولاية أميركية ومن الاتحاد الأوروبي والعديد من المدعين من القطاع الخاص. بصورة ملحوظة، كان قانون منع الاحتكار لا زال قائماً في صلب القضايا الأميركية التي تسعى للقضاء على السلوك المناهض للمنافسة المتهمة به شركة مايكروسوفت في صناعات التكنولوجيا العالية في مطلع القرن الواحد والعشرين. 

أسّس بيل غيتس وبول ألن شركة مايكروسوفت في السبعينات من القرن العشرين. ترك ألن الشركة في حين أن غيتس أعطى الشركة صورة الحيوية المفرطة الشابة والابتكار المثير. لكن خلف الشخصية العامة لغيتس كان هناك مخطط استراتيجي شركاتي شبّه البعض تكتيكاته التنافسية بتلك التي اتبعها جون روكفلر. من الواضح أن مايكروسوفت ويندوز هو نظام التشغيل المسيطر لأجهزة الكمبيوتر الشخصية مثلما كانت شركة ستاندرد أويل نظام التوزيع المسيطر في الصناعة النفطية. في قضية حكومة الولايات المتحدة ضد شركة ميكروسوفت، وجدت المحكمة الأميركية في واشنطن العاصمة، أن شركة مايكروسوفت تحتفظ بسيطرتها من خلال تخويف شركات الكمبيوتر القوية، مثل إنتل وآي بي إم، والضعيفة، مثل شركة أبل للكمبيوتر للامتناع عن استخدام المنتجات الاستهلاكية التي لديها القدرة على تحدي برنامج مايكروسوفت ويندوز.
وجدت مختلف المحاكم في نهاية المطاف أن مايكروسوفت تحتكر بصورة غير مشروعة السوق الرئيسية لأنظمة تشغيل أجهزة الكمبيوتر. مع ذلك، وخلافاً لشركة استاندرد أويل لم تتفكك مايكروسوفت. أصدر الأمر إليها بالتوقف عن سياسات الأسعار التمييزية والوصول إلى المنتجات، وتقاسم المعلومات الأساسية المتعلقة بنظام ويندوز لتشغيل أجهزة الكومبيوتر الشخصية اللازمة لمنافسيها كي يتمكنوا من منافسة مايكروسوف بشكل أكثر فعالية وبحرية في سوق البرمجيات التطبيقية التي تعمل على نظام ويندوز. 

في قضية الاتحاد الأوروبي، فرضت اللجنة قيوداً مماثلة فضلا عن غرامة قدرها 497.2 مليون يورو. عملت مايكروسوفت على تسوية العديد من الدعاوى في جميع أنحاء العالم، في القطاعين العام والخاص، بتكلفة بلغت مليارات إضافية من الدولارات. 

ونتيجة لذلك، تغيرت أجواء صناعة تكنولوجيا المعلومات. وبدأت الشركات المشاركة بقدر أكبر من الحرية في البحوث التي تتنافس بشكل أساسي مع تكنولوجيا مايكروسوفت. في الواقع، شرعت مايكروسوفت مؤخرا على مسار جديد لبراءات الاختراع عبر الترخيص الذي يشكل خروجا جذريا عن تاريخها في المنافسة الحادة. ولإن كان من السابق لأوانه تقييم الأثر النهائي لتحول مايكروسوفت نحو التعاون، الأمر الواضح هو أن قانون شيرمان لمنع الاحتكار احتفظ بأهميته القانونية وأصبح له بالفعل دور كبير يلعبه في تنظيم التجارة في عصر المعلومات. 

هل حقق قانون منع الاحتكار فرقا في الولايات المتحدة خلال القرن الماضي؟ الجواب هو بوضوح نعم فيما يتعلق بكارتلات تحديد الأسعار العلنية وفيما يتعلق بأكثر الأمثلة الصارخة للاحتكارات التجارية الجشعة. ولكن تأثيره على عمليات دمج الشركات والاستحواذات التجارية الأخرى، وبالتالي على تركيز الصناعة، ليس أكيداً. فمن ناحية، هناك أدلة على أن اندماج الشركات استمر في الانتشار في جميع سنوات القرن (وقد فشل في كثير من الأحيان بإنتاج الكفاءات التي وعد بها التوحيد). من جهة أخرى، يمكن القول جدلاً إن العولمة والرقابة الفدرالية وفقا لروح السيناتور شيرمان قد أدت إلى تضاؤل آثارها المانعة للمنافسة. في بلد يتميز بروح قوية من المنافسة الحرة، فإن قانون شيرمان، وفي كثير من الأحيان بنجاح، كان وسيطاً بين اثنين من العواقب المتناقضة جزئيا لتلك الروح: التزام بالمنافسة لا يقيده التنظيم الحكومي المفرط، والتحرر من هيمنة السوق من قبل المصالح الخاصة القوية. 

تستمر التجارة، ولكن في عالم قد تغير. تشمل الحياة اليومية الآن خدمات الهاتف العالمي، فضلا عن الأقمار الصناعية والمحطات الإذاعية والتلفزيونية عبر الكابل. فتحت البحوث الطبية أبوابا جديدة لتحسين الصحة وإطالة العمر. تتيح الإنترنت الوصول السريع إلى السلع الاقتصادية، وتشكل وسيلة لإسماع الصوت السياسي، وللاتصالات الشخصية الفورية. ومع تجلي القرن الواحد والعشرين، سوف يواجه قانون شيرمان تحديا متزايدا من توترات الوساطة بين سياسة المنافسة والاحتكارات القانونية التي تمنحها حماية براءات الاختراع وحقوق التأليف والنشر، التي يبدو أنها أهم أشكال الثروة في مجتمع المعلومات الناشئ. 

رودولف جاي أر بريتز هو أستاذ القانون ومدير مشروع IProgress في كلية الحقوق في نيويورك. وهو يدرّس مقررات في قانون منع الاحتكار، وقانون الملكية الفكرية، وقانون العقود، وقانون الإنترنت، والفقه القضائي. قبل الدخول في مهنة المحاماة، كان مهندس برمجيات ومبرمجا لأنظمة الكمبيوتر المركزية. كان أستاذا زائرا في جامعة لويس، روما، ايطاليا، وفي جامعة إسكس في المملكة المتحدة. وهو مؤلف لكتابين وللعديد من المقالات في مجال قوانين المنافسة وحقوق الملكية الفكرية، وقانون الإنترنت. وهو يعمل حاليا على مشروع بعنوان الاقتصاد السياسي للتقدم. ويعتبر كتاب الأستاذ بريتز حول سياسة المنافسة في أميركا، الذي نشرته مطبعة جامعة أكسفورد، من الكتب الكلاسيكية في هذا المجال.
قانون شيرمان لمنع الاحتكار؛ سياسة المنافسة؛ براءات الاختراع؛ حقوق التأليف والنشر؛


مهدت الولايات المتحدة عام 1890 الطريق لقانون المنافسة وعملت بقوة على تقوية مستقبل الأسواق الحرة في النظام الأميركي من خلال تبني تشريع فدرالي جديد: قانون شيرمان لمنع الاحتكار. يشرح الكاتب كيف أن القانون الجديد جعل النظام الاقتصادي الأميركي أكثر حركة وانفتاحا على المنافسين والتكنولوجيات الجديدة. 

03 نيسان/إبريل 2008
(اقتطف المقال التالي الذي كتبه رودولف جاي. آر. بريتز. من مطبوعة وزارة الخارجية بعنوان: "مؤرخون كتبوا عن أميركا")
قانون شيرمان لمنع الاحتكار للعام 1890
Read more: http://iipdigital.usembassy.gov/st/arabic/publication/2010/06/20100625153940x0.3791925.html#ixzz4QVM140FH

ليست هناك تعليقات